/ الفَائِدَةُ : (171) /

01/06/2025



بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على محمد واله الطاهرين ، واللَّعنة الدَّائمة على أَعدائهم اجمعين. / هويَّة كُلّ ذَاتٍ بفصلها وكمالها الأخير / هناك مَبْحَثٌ نَفِيسٌ جِدّاً ، تسالمت عليه جميع المدارس المعرفيَّة ، وهو من الْمَبَاحِثِ المثمرة في مواردٍ عديدةٍ ، يَنْبَغِي الْاِلْتِفَات إِلَيْه ، حاصله : أَنَّه ذُكِرَ في الْمَبَاحِثِ الْعَقْلِيَّةِ : (أَنَّ هويَّة كُلّ ذَاتٍ بفصلها الأَخير) ، وبتوسط البُعد الرُّوحي ؛ فالحيوان ـ مثلاً ـ يشترك مع النبات في الجسميَّة والنمو وما شاكلهما ، لكنَّه يفترق ويمتاز عنه بفصله وكماله الأَخير ؛ وَأَنَّ له حركةً اختياريَّةً وإِحساساً بشكلٍ جَلِيٍّ ، وكذا الإِنسان : فإِنَّه يشترك مع الحيوان بالحركة والإِحساس ، لكنَّه يمتاز عنه بفصله وكماله الأَخير ؛ وَأَنَّ له إِدْرَاكَات أَعلى ، فالإِنسان يستطيع أَن يُنظِّم النشأة الأَرضيَّة ، ويتصرَّف ويُسَخِّرُ فيها كثير من المخلوقات ، بخلاف سائر الحيوانات . /حقائق التَّعاريف تكمن في الغايات/ وَمِنْ ثَمَّ المعروف لدىٰ المناطقة : أَنَّ تعريف الشَّيء بغايته أَبْيَن وأَكمل تعاريف هويَّته وحقيقته من تعريفه بجنسه وفصله ، ومادَّته وصورته ؛ فإِنَّ لُبَّ الشَّيء وروحه وحقيقته : غايته وكماله الأَخير . فلذا امتاز الإِنسان بكمـاله الأَخير ـ وهو : العقل ، والرُّوح الإِنسانيَّة ـ عن الحيوانات . /حقيقة ذات سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بفصلها الأَخير/ /عدم التناهي من لوازم حقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ/ /لا يمكن لمخلوق قَطُّ الإِحاطة بِكُنْهِ حقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ/ هذا وقد امتازت حقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عن غيره من جملة البشر وكافَّة المخلوقات بفصلها الأَخير(1) ، وليس هو الجنبة البشريَّة ، بل بأَعظمِ كمالٍ يناله مخلوق قَطُّ(2) ، وهو : أَنَّ ذاته الشَّريفة عبارة عن وَحْي زَخَّار ، وفيض وَحْي إِلَهِيٍّ دائم لن ينقطع أَزلاً وأَبداً ، لا في هذه النَّشْأة ولا في العوالم والنَّشَآت اللاَّحِقَة ، بل والسَّابقة أَيضاً ، كعَالَم الذَّرِّ والميثاق ، وعَالَم : البرزخ ، والرَّجعة ، والقيامة ، والآخرة الأَبديَّة وبعدها(3) . فانظر : بيانات وأَدِلَّة الوحي ، منها : الدَّليل الأَوَّل : بيان قوله جلَّ قدسه : [مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى* وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى](4) . بتقريب : أَنَّ ضمير : (هو) في البيان الشَّريف وبمقتضىٰ السِّياق ومرجع الضَّمير في هذه الآيات المباركة : أَنَّ مرجعه في الآية الثَّالثة نفس مرجعه في الآيتين السَّابقتين ، وهو عائد على ذات وحقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، وقد عُبِّرَ عنها بـ : أَنَّها (وَحْيٌ يُوحَى) ، وحيث جيء بصيغة المضارع : (يُوحَى) ـ وهي تفيد التَّجَدُّد والْاِسْتِمْرَار التَّأْبِيدي ـ دلَّ ذلك على أَنَّ ذاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ : سحاب هاطل ، وغيث هامل ، وبحر زخَّار لا ينزف ، وعين غزيرة ، وروضة مطيرة ، لا نهاية ولا انقطاع لوحيها أَبد الآباد ودهر الدُّهور ما زالت للَّـه حاجة في خلقه . الدَّليل الثَّاني : بيان قوله جلَّ وتقدَّس : [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ](5). ودلالته قد اِتَّضحت ؛ فإِنَّه في صدد بيان تعريف ماهيَّة وحقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ؛ وأَنَّ لها جنبتين : إِحداهما : بشريَّة ، وهي ما أَشار إِليها بيان قوله تعالىٰ : [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ] . والأُخرىٰ : وحيانيَّة ، تُعَبِّر عن فصل ماهيَّة ذاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الأَخير ، وليس هو النَّاطقيَّة ، بل ينبوع وَحْيٌ أَبانه به عن الخلق ؛ وطبقة هذا الوحي فوق عَالَم العقل ، بل وفوق عَالَم النُّور . وهذه الطبقة مَنْهَلٌ رَوِيٌّ ، وصِرَاطٌ سَوِيٌّ لا نهاية له ، وكَنْزٌ لا يفند ، وبَحْرٌ مَوَّاجٌ لا تَنْزِف ولا يُدْرَك طرفه ، ولا يبلغ عمقه ، يغرق فيه السبحاء ، ويُحار في درره العلماء ، ويضيق بالسَّامع عرض الفضاء . وإِلى هذه الجنبة أَشار بيان قوله تعالىٰ : [يُوحَى إِلَيَّ] فَعَبَّرَ عنها بصيغة الفعل المضارع ـ كما في البيان الأَوَّل ـ المفيدة للتَّجَدُّد والْاِسْتِمْرَار التَّأْبِيدي ؛ والَّذي لن ينقطع في هذا العالم وفي العوالم اللاَّحِقَة ، بل والسَّابقة أَيضاً . وهذا المقام والهبة الْإِلَهِيَّة الاِصْطِفائيَّة التكوينيَّة لم يثبته الْقُرْآن الْكَرِيْم في جملة العوالم غير المتناهية لمخلوقٍ آخَر قَطُّ ، بل ولم يثبته لنفسه ، بل عبر عن وحيه بصيغة الماضي (أَوْحَى). فلاحظ : بيانات الوحي ، منها : بيان قوله عزَّ من قائل : [وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ](6) . الدَّليل الثَّالث : ويُمثِّله : أَوَّلاً : بيان سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مخاطباً أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ... يا عَلِيُّ ... وأَنت السَّبب فيما بين الله وبين خلقه بعدي ... يا عَلِيُّ ، ما عُرِفَ اللّٰـه إِلَّا بي ثُمَّ بكَ ... »(7) . ثانياً : بيان الإِمام الباقر صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «ليس شيء أَقرب إلى الله تعالىٰ من رسوله... » (8). ثالثاً : بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : «أَوَّل مَنْ سبق من الرسل إلى بلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ؛ وذلك أَنَّه كان أَقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالىٰ ، وكان بالمكان الَّذي قال له جبرئيل ـ لَـمَّا أُسري به إِلى السماء ـ تقدَّم يا مُحمَّد ، فقد وطأت موطئاً لم تطأه ملك مُقَرَّب ، ولا نبيّ مرسل(9) ، ولولا أَنَّ روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر أَنْ يبلغه ، فكان من الله عَزَّ وَجَلَّ كما قال الله : [فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى](10) أَي : بل أَدنىٰ فلَمَّا خرج الأَمر من الله وقع إِلى أَوليائه عليهم السلام ... »(11). رابعاً : بيان الزيارة الجامعة لأَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : « ... فليس فوقكم أَحد إِلَّا الله ، ولا أَقرب إليه منكم ، ولا أَكرم عليه منكم ولا أَحظىٰ لديه ... »(12). بتقريب يتوقّف على مقدِّمات أَربع : الأُولىٰ : أَنَّ هذه البيانات الوحيانيَّة ـ وغيرها الكثير ـ تُثبت أَنَّه ليس أَقرب للذَّات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة من سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ (13) ؛ فهو الجنب العلي ، والوجه الرضي ، والوسيلة إِلى الله ، والوصلة إلى عفوه ورضاه ، وسرّ الله الواحد الأَحد ، فلا يُقاس به من الخلق أَحد . الثَّانية : أَنَّ هذه البيانات الوحيانيَّة وغيرها تثبت بإِطلاقها : أَنَّ هذا القرب مُمتدّ أَزلاً وأَبداً . الثَّالثة : أَنَّ معنىٰ هذا القرب : أَنَّ ذات سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ هي : واسطة العطاء والرَّحمة الْإِلَهِيَّة ، وواسطة المدد والفيض الْإِلَهِيّ الأَوَّل ؛ المُتدفِّق من الذَّات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقدَّسة في قوس النُّزول إلى عامَّة العوالم وجملة المخلوقات غير المتناهية ، لا نفاد له ولا انقطاع ، ولا يُسدّ بابه أَبد الآباد ؛ ما دام في الوجود مخلوقٍ ، وإِلَّا لَـمَا كان للمخلوقات حظٌّ من الواقعيَّة والوجود . الرَّابعة : أَنَّ الوحي الْإِلَهِيّ بأنحائه هو أَحد هذه العطاءات والفيوضات الْإِلَهِيَّة ؛ المارَّة أَزَلاً وأَبداً في طبقات حقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الصَّاعدة إلى سائر العوالم وكافَّة المخلوقات غير المتناهية (14) . والنَّتيجة : أَنَّ ذات سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بَحْرٌ زخَّارٌ ، وعين غزيرة بالوحي لا انقطاع لها أَبد الآبدين ودهر الدَّاهرين ؛ فيكون علم الأَنبيّاء في علمه ، وسرّ الأَوصيّاء في سرِّه ، وعزِّ الأَولياء في عزِّه كالقطرة في بحور اللاتناهي ، والذَّرَّة في قَفْر عدم التناهي ، فإِنَّه مهما بلغت علوم الأَنبياء والمرسلين والملائكة المُقَرَّبين وسائر كُمَّل المخلوقين إِذا قيست إلى علمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ لا بُدَّ أَنْ تكون محدودة ، ولا توجد نسبة رياضيَّة بين المحدود وغير المحدود ، فتكون جملة علوم سائر المخلوقات بالنِّسبة إِلى علمه كالعدم ؛ لأَنَّ نسبة المحدود إِذا قيست إِلى غير المحدود كانت صفراً على جهة الشِّمال ، وإِلَّا ـ أَي : لو أُعطي المحدود في قِبَالِ غير المحدود نسبة وقيمة وإِنْ كانت ضئيلة جِدّاً ، كما لو كانت واحد بالترليون ـ لَلَزِمَ انقلاب ماهيَّة وحقيقة غير المحدود ، وصارت محدودة ، وضرورة بطلان انقلاب الماهيَّة والحقيقة من الواضحات ؛ بل ولزم خلف الفرض . /اِتِّضاح جَمٌّ غَفِيرٌ من بيانات الوحي/ /سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ نَبِيُّ الأَنبياء في العوالم السَّالفة/ وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَّضح : الْجَمُّ الْغَفِيرُ من بيانات الوحي الواردة في حقِّ بعض طبقات حقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، منها : أَوَّلاً : بيانه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، عن ابن عبَّاس ، قال : « قيل : يا رسول الله ، متىٰ كُنْتَ نبيّاً ؟ قال : وآدم بين الرُّوح والجسد »(15). ثانياً : بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « ما بعث الله نبيّاً أَكرم من محمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، ولا خلق الله قبله أحداً ، ولا أَنذر الله خلقه بأحدٍ من خلقه قبل مُحمَّد ، فذلك قوله تعالىٰ : [هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى](16) ، وقال : [إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ](17) ؛ فلم يكن قبله مطاع في الخلق ، ولا يكون بعده إِلى أَنْ تقوم السَّاعة في كُلِّ قرنٍ إِلى أَنْ يرث الله الأَرض وَمَنْ عليها »(18) (19) . ثالثاً : بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، عن عليّ بن معمر ، عن أَبيه ، قال : « سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عَزَّ وَجَلَّ : [هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى] قال : إِنَّ الله تبارك وتعالىٰ ما ذرأ الخلق في الذَّرِّ الأَوَّل فأقامهم صفوفاً قدامه بعث الله مُحمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فآمن به قوم ، وأنكره قوم ، فقال الله : [هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى] يعني به : محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ حيث دعاهم إِلى اللَّـه عَزَّ وَجَلَّ في الذَّرِّ الأَوّل »(20). رابعاً : بيانه صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَيضاً ، عن المُفضَّل ، قال : « قال لي أَبُو عبدالله عليه السلام : يا مُفَضَّل ، أَمَا علمتَ أَنَّ الله تبارك وتعالىٰ بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وهو روح إِلى الأَنبياء عليهم السلام ؛ وهم أَرواح قبل خلق الخلق بألفي عام ؟ قلتُ : بَلَىٰ ، قال : أَمَا علمتَ أَنَّه دعاهم إلى توحيد الله وطاعته واتِّبَاع أمره ، ووعدهم الجنَّة على ذلك ، وأَوعد مَنْ خالف ما أَجابوا إِليه وأنكر النَّار؟ فقلت : بَلَىٰ »(21). ودلالته ـ كدلالة سوابقه ـ واضحة ، على أَنَّ سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كان نبيّ الأَنبياء في العوالم السَّابقة ، ويتمتَّع بوَحْي إِلَهِيٍّ . /فصل حقائق سائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَحْر وَحي لا نهاية له أَبَدًا/ وحيث إِنَّ حقائق سائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الصَّاعدة مُترشِّحة ومُشتقَّة ومُتَجَلِّيَة من حقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الصَّاعدة ؛ كانت فصول حقائقهم صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وبمقتضىٰ قاعدة السنخيَّة : بحر وحي زخَّار لا نهاية له أَيضاً ، أَبد الآباد ودهر الدُّهور ، في هذا العَالَم وفي العوالم والنَّشَآت السَّابقة واللَّاحقة . نعم ، وحي حقائق وذوات سائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ليس وحي نبوَّة ، بل وحي علم لَدُنّيٍّ . بخلاف وحي حقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، فإِنَّه فضلاً عن كونه وحي نُبوَّة هو وحي علم لدُنِّيٍّ ؛ فهو نبيّ الأَنبياء وهو إِمام الأَئمَّة صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، فتكون ذاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الشَّريفة قد جمعت بين وحي النُّبُوَّة بجميع مراتبه ، ووحي الإِمامة بكافَّة طبقاته أَيضاً . وإِلى هذا أَشارت بيانات الوحي ، منها : 1ـ بيان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ الوارد في حقِّ الإِمام من أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : «... الإِمام ... ظاهره أمر لا يُملك، وباطنه غيب لا يُدْرَك ... جلَّ مقام آل مُحمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عن وصف الواصفين، ونعت النَّاعتين ، وأَنْ يُقاس بهم أَحَد من العالمين ... الإِمام ... بشر ملكيّ ، وجسد سماويّ ، وأَمر إِلٰهيّ ، وروح قدسيّ ، ومقام عَلِيّ ، ونور جليّ ، وسرّ خفيّ ، فهو ملك الذَّات ، إِلٰهيّ الصِّفات ... هذا كلّه لآل مُحَمَّد لا يُشاركهم فيه مشارك ... علم الأَنبيّاء في علمهم ، وسرّ الأَوصياء في سرِّهم ، وعزّ الأَولياء في عزِّهم كالقطرة في البحر ، والذَّرّة في القفر ... ومَنْ أَنكر ذلك فهو شقيٌّ ملعون ، يلعنه الله ويلعنه اللاعنون ... فهم ... الأَسرار الْإِلَهِيَّة المودعة في الهياكل البشريَّة... »(22). 2ـ إِطلاق بيان الإِمام الصَّادق صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : « كُلُّ ما كان لمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَلَنا مثله إِلَّا النُّبُوَّة والأَزواج »(23). 3ـ بيان الإِمام الهادي صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، الوارد في تفسير بيان قوله تعالىٰ : « ... [وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ](24) فهو كذلك ، لو أَنَّ أشجار الدُّنيا أَقلام ، والبحر يمدّه سبعة أَبحر ، وانفجرت الأَرض عيوناً لنفدت قبل أَنْ تنفد كلمات الله ... ونحن كلمات الله الَّتي لا تنفد ولا تُدْرَك فضائلنا ... »(25). ودلالته ـ كدلالة سابقيه ـ واضحة ، ولا غبار عليها . /عصارة ما تقدَّم من القول المختار/ وعصارة ما تقدَّم : أَنَّ التَّعريف النَّاضج والسَّديد : أَنْ تُعرَّف حقائق الأَشياء وتُبيَّن بـ : عواقبها ونهاياتها ومئالاتها وغاياتها وكمالاتها الأَخيرة ، لا بمبادئها ومصاديقها ؛ فإِنَّه تعريف وبيان اِبْتِدَائيّ . وهذه القضيَّة شاملة لجملة العلوم ، كـ : علوم : (المعارف) وعلم : (التَّفسير)، و(الـمنطق)، و(الكيمياء)، و(الفيزياء)، و(الاجتماع)، و(السياسة)، و(القانون)، و(الاقتصاد)، ففي طُرِّ العلوم لا يمكن أن يُحَكْم على الشَّيء أَو الحقيقة إِلَّا بعاقبته ومآله ونهايات نتائجه . إِذَنْ : حقيقة المعاني والحقائق ولبّ لبابها تكمن في نهاياتها ومآلاتها وغاياتها . وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ الأَطْهَارِ . ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1)يَنْبَغِي صرف النظر في المقام إِلى نُكْتَةٍ منهجيَّةٍ مُهمَّةٍ جِدّاً ، تأتي في باب النُّبُوَّة وَالْإِمَامة الْإِلَهِيَّة ، وهي : أَنَّ معرفة ماهيَّة وحقيقة النُّبُوَّة ـ وكذا معرفة ماهية وحقيقة الْإِمَامة الْإِلَهِيَّة ـ أَمْرٌ تَعبُّديٌّ توقيفيٌّ توقيتيٌّ من الله عَزَّ وَجَلَّ ، ومن ثَمَّ لا يمكن لبشر كالفلاسفة والمُتكلِّمين حدّها ، وإِلَّا فلازمه زيغ وانحراف وتشبيه وجحود . بل مَنْ يَدَّعي من طُرِّ المخلوقات معرفة كُنْه ذات وحقيقة سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فقد قال غلطاً ، وتكلَّف شططاً . نعم ، يمكن ادِّعاء معرفته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ من وَجْهٍ ، وبالهويَّة المُشخِّصَة . وهذا ليس بغلوٍّ ولا تأليه ، وإِنَّما تعظيمٌ للذات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقَدَّسة ، وحفظ لمقامات خلقة الله سبحانه وتعالىٰ قبل أَنْ يكون تعظيماً لذات سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ؛ فإِنَّ عظمة الفعل من عظمة الفاعل ، وحيث إِنَّ ذات الباري تقدَّس ذكره غير مُتناهية فكذا فعله . وعلى ضده قس استنقاص فعله جلَّ قدسه ودعوىٰ تناهيه ، فإِنَّ لازمه (والعياذ باللّٰـه تعالى) نسبة نقص وحكم بتناهي الذَّات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقَدَّسة . وعليه : قس الْإِمَامة الْإِلَهِيَّة حَرْفاً بحَرْفٍ ؛ لكونهما يرتضعان من ثَدْيٍ واحدٍ . (2)يَنْبَغِي الْاِلْتِفَات : أَنَّ نعوت سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وسائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وأَوصافهم وكُناهم وأَسماءهم ليست مدح وثناء فحسب ، بل معارف يَجْدُرُ بالمخلوق اِمْتِحَان نفسه في كُلِّ يوم بواحدٍ منها ؛ كيما يُقْحِم نفسه بمسؤوليَّة ومعرفة جديدة . بخلاف السَّير على نحو وتيرة واحدة ؛ فإِنَّه نحو تكاسل وبلادة . (3) يَجْدُرُ الْاِلْتِفَات : أَنَّ ما يقوم به سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وسائر أَهْل الْبَيْتِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ من أَدوارٍ ومَسْؤُولِيَّاتٍ في عَالَم الآخرة الأَبديَّة : أَعظم شأناً ، وأَرفع مسؤوليَّة ، وأَخطر خطباً من دون قياس من أَدوار ما قاموا ويقومون وسيقومون بها في عَالَم الدُّنيا بنشآته الثَّلاث . (4) النجم : 2-4. (5) فُصِّلَتْ : 6. (6) الكهف : 27 . (7) بحار الأَنوار، 22: 147 ـ 148/ح141. كتاب: (سليم بن قيس): 215 ـ 216. (8) بحار الأَنوار، 24: 202/ح36. (9) في المصدر: ( لم يطأه أَحد قبلك ملك ولا نبيّ مرسل ). (10) النجم : 9. (11) بحار الأَنوار، 5: 236/ح12. تفسير عليّ بن إِبراهيم: 229 ـ 230. (12) بحار الأَنوار، 97: 344. (13) يَنْبَغِي الْاِلْتِفَات : أَنَّ المخلوق الَّذي ليس بينه وبين الذَّات الْإِلَهِيَّة المقدَّسة واسطة بقول مطلق ليس هو إِلَّا سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بطبقته النُّوريَّة الصَّاعدة ، أَمَّا سائر المخلوقات منها طبقات ذات سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ النَّازلة وروحه ونفسه وبدنه فبينها وبين الذَّات الْإِلَهِيَّة الأَزليَّة المُقَدَّسة واسطة بالضرورة . وهذا بحث يأتي (إِنْ شاء الله تعالىٰ) في باب : (الصِّفات والأَسماء الْإِلَهِيَّة) ، و(النُّبُوَّة) ، (الْإِمَامَة الْإِلَهِيَّة). (14) إِنَّه يوجد فارق من دون قياس بين الأَولويَّات المُخاطب بها سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وما يُخاطب به سائر جملة المخلوقات ـ منها : سائر الأَنبياء والمرسلين (منهم أُولي العزم) والملائكة المُقَرَّبين عليهم السلام ـ بل يعجز عن عشر معشارها سائر المخلوقات ، ومن ثَمَّ لا يُخاطب بها غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ، لخروجها عن قدرة كافَّة المخلوقات ومكنتهم . بل في جملة منها لا يتمكَّن ولا يقدر عليها ثاني أَشرف المخلوقات طُرّاً نفس سَيِّد الْأَنْبِيَاء ؛ أَمير المؤمنين (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِما وعلى آلهما) ؛ لكون مقاماته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ومناصبه وصلاحيَّاته الْإِلَهِيَّة أَعظم وأَشَدّ من مقامات ومناصب وصلاحيَّات جملة المخلوقات من دون قياس . ومنْ ثَمَّ كانت عبوديَّته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَعظم ؛ فلذا كان طيلة حياته يجلس جلسة العبيد ؛ كيما لا يسمح لنفسه من البروز ولو للحظة ، وبمقدار حبَّةٍ من خردلٍ . وهذا بيانٌ خطيرٌ وعظيمٌ في شأن سَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ ؛ دالٌّ على علوِّ مقاماته ومناصبه وصلاحيَّاته الْإِلَهِيَّة ، وعدم قابليَّة كافَّة المخلوقات على وصف شأنٍ من شؤونه . (15) الدر المنثور، 8: 128. (16) النجم: 56. (17) الرعد: 7. (18) بحار الأَنوار، 16: 371/ح82. مجالس الشَّيخ: 63. (19) إِنَّ لسَيِّد الْأَنْبِيَاء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَوسمة ومقامات سؤدد كثيرة ، أَفاضتها عليه يد السَّماء لم يتمتَّع بها مخلوق قَطُّ لا من قبل ولا من بعد ، منها : مقام وسؤدد : إِمام الأَئِمَّة على الإِطلاق . (20) بحار الأَنوار، 5: 234/ح7. (21) بحار الأَنوار، 29: 194 ـ 196/ح5. علل الشَّرائع: 65. (22) بحار الأَنوار، 25: 169 ـ 174/ح38. (23) المصدر نفسه ، 26: 317/ح83. (24) لقمان: 27. (25) بحار الأَنوار، 10: 386 ـ 389/ح1